"الامم المغلوبة تدور فى فلك الامم الغالبة "هكذا قال بن خلدون فى مقدمته ولكن الامر ليس ابدا هكذا فأحداث التاريخ مزدحمة بأمم مغلوبة هوت فى شركها امم غالبة وامم مستضعفة دارت فى فلكها أمم منتصرة عليها ان الامبراطورية الرومانية رغم قوتها رضخت للنصارى واتخذت النصرانية دينا حتى ان قسطنطين حاكمها قد مات على الاريوسية وعمده على فراش الموت عام 337 ميلادية يوسببيوس الاريوسى والاحتلال البريطانى فى مصر بعد سبعين عاما خرج منها يتكلم العربية ومازال الطلاب المصريون يحصلون على درجة النجاح فى الانجليزية بصعوبة بالغة اذن فما قاله بن خلدون لس صحيحا فلم تكن القوة يوما ما رغم أهميتها هى السبيل للوصول الى القلوب والعقول ان أهمية القوة هى الحماية وليس الاقناع , الدفاع عن منظومة القيم وليس سبيلا لقبولها , فالفتوحات الاسلامية لم تفرض الدين بالاكراه لم تساوم الناس على حاجاتهم الاساسية للدخول فى الدين الجديد بل تركت كل منها يعيش وفق معطياته ولكنهم حين تعرفوا على القيم الاسلامية ونمط معيشتها آمنوا به عن اقتناع وهذا هو الفارق بين الفتوحات الاسلامية والهيمنة الامريكية
بل أحيانا تأتى القوة حين تكون بأيد الحمقى بنتائج عكسية تماما وسنركز فى التاريخ على حدثين هامين يوضحان خطأ ما قاله بن خلدون ويتناقض معه تماما
فى عام 25 قبل الميلاد قرر الرومان غزو جزيرة العرب وضمها الى الامبراطورية وكان السبب هو ماسمعه الامبراطور أغسطس عن ثراء شيوخ القبائل وغناهم الفاحش فأعد القائد الرومانى ايليوس جاللوس بمساعدة عرب ناباتا شرق الاردن حاليا حملة الى جزيرة العرب ورغم أنه حقق انتصارت فى البداية الا ان صعوبة التضاريس وحرارة الجو ودفاع القبائل المستميت أفسد الحملة ومنى الرومان بهزيمة كبرى ولكن العرب حيث لم يكن لهم فى ذلك الوقت أيديولوجية أو قضية يدافعون عنها وقعوا فى حب روما وأعجبوا بشجاعة الرومان وقامت بينهم وبين الرومان صداقة كبيرة خاصة ملوك حمير وحصلت روما بالسياسة وربما بالاغواء ما عجزت عنه بالحرب وقبل العرب طائعين ببلاهة شديدة التخلى عن سيطرتهم على المضايق واستولى الرومان على عدن اذن فالغلبة هنا لم تكن معيارا
أما النموذج الثانى فكان أيام الاحتلال البطلمى لمصر حيث خضع المحتلون الغالبون لرغبات المستضعفين وعبدوا آلهتهم وتبنوا أفكارهم يقول ول ديورانت مستعرضا حياة اليونان فى نهايتهم
" ولكن البطالمة شنوا الحروب وأنفقوا مقداراً متزايداً من مكاسب الشعب على الجيوش والأساطيل والوقائع الحربية، وتدهورت طباع الملوك تدهوراً سريعاً بعد فلدلفس؛ فقد انهمكوا في ملاذ الأكل والطعام والنساء وتركوا أزمة الحكم في أيدي السفلة الذين ابتزوا كل درهم من الفقراء؛ ولم ينسَ المصريون قط أن هؤلاء المستغلين كانوا من الأجانب، ولم يغب ذلك عن عقول الكهنة الذين كانوا يحلمون بالحياة المترفة التي كانوا يستمتعون يها قبل سيادة الفرس واليونان. وكان أهم ما يفهمه البطالمة من الاشتراكية أنها نظام للإنتاج الكثير لا للتوزيع الواسع النطاق. فقد كان الفلاح ينال من محصولهِ ما يكفي لحفظ حياته، ولكن لا يكفي لتشجيعه على عملهِ أو إعانته على تربية أسرته. وزاد مقدار ما تنزعه الحكومة منه جيلاً بعد جيل، ولم يعد الناس يُطيقون سيطرة الدولة على كل صغيرة وكبيرة كما لا يُطيق الأبناء متى كبروا الرقابة الدائمة التي يفرضها الأب المستبد عليهم. وكانت الدولة تُقرض الفلاح البذور ليزرع بها أرضه ولكنها كانت تقيده بالبقاء في الأرض حتى يجني المحصول، ولم يكن في وسع أي فلاح أن ينتفع بأي قدر من محصولهِ إلا بعد أن تؤدى ما عليه للدولة من التزامات وديون. ولقد كان هذا الفلاح صبوراً بطبعه. ولكنه رغم طبعه هذا بدأ يتذمر، فلم يكد يستهل القرن الثاني حتى بارت مساحات واسعة من الأرض لعدم وجود من يزرعها، ولم يجد مستأجروا أراضي الملك من يؤجرونها لهم ليزرعوها، فحاولوا أن يقوموا هم أنفسهم بزرعها، ولكنهم عجزوا عن ذلك العمل، فأخذت الصحراء تزحف شيئاً فشيئاً على الحضارة. وكان العبيد يعملون في مناجم الذهب ببلاد النوبة وهم عراة، في سراديب مظلمة ضيقة، وأجسامهم ملتوية، وهم مثقلون بالأغلال، يسوقهم الملاحظون إلى العمل بالسياط، طعامهم حقير لا يكاد يسد الرمق، وقد هلك آلاف منهم من سوء التغذية ومن فرط التعب، وكانت سلواهم الوحيدة في هذه الحياة هي الموت وكان العامل العادي في المصانع يتقاضى أبلة واحدة (9slash100 من الريال الأمريكي) في اليوم، أما الصانع الماهر فكان يتقاضى أبلتين أو ثلاث أبلات، ويستريح من العمل يوماً في كل عشرة أيام. وعم الاستياء، وازدادت الشكاوى، وكثر الإضراب: إضراب بين عمال المناجم، والمحاجر، ورجال القوارب، والفلاحين، والصناع، والتجار، ثم تعداهم إلى الملاحظين ورجال الشرطة أنفسهم. ولم يكن الغرض من الإضراب زيادة الأجور، فإن الكادحين قد يئسوا من هذه الزيادة من زمن بعيد، بل كان الدافع إليه هو الإعياء واليأس. وتقول بردية تسجل إضراباً من هذا النوع: "لقد خارت قوانا، وسنفر من العمل" أي أنهم سيعتصمون بأحد الهياكل . وكان كل المستغلين تقريباً من اليونان، وكل الكادحين المستَغلين تقريباً من المصريين أو اليهود. وكان الكهنة يُثيرون مشاعر الأهلين خفية باسم الدين، على حين كان اليهود يُعارضون في كل عمل تقوم بهِ الحكومة لتخفيف الضغط عليهم أو على المصريين. ولجأت الحكومة في العاصمة إلى العطايا وأساليب التسلية لترشوا بها الجماهير، ولكنها لم تكن تسمح لهم بدخول الأحياء الملكية، وكانت تسلط عليهم قوة عسكرية كبيرة تراقبهم وتتجسس عليهم، ولم تكن تسمح لهم بنصيب ما في إدارة شؤونهم. وما لبثت هذه الجماهير أن أضحت في آخر الأمر جماعات من الغوغاء عنيفة لا تحس بأية تبعة. وثار المصريون في عام 216 قبل الميلاد ولكن الثورة أخمدت؛ ثم ثاروا مرة أخرى في عام 189 قبل الميلاد ودامت ثورتهم خمس سنين. وسيطر البطالمة على الموقف وقتاً ما بقوة جيشهم وبزيادة هباتهم للكهنة، ولكن الموقف كان قد تحرج إلى أقصى حدود التحرج، لأن موارد البلاد نضبت عن آخرها، حتى لقد أحس المستغلون أنفسهم أنه لم يبقَ فيها شيء يستغلونه.
وبدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم، وأفقدهم آخر الأمر القدرة على التفكير. وضعفت قدرة الأرض على الإنتاج عاماً بعد عام لخروج الناس على القانون، وقلة أمانتهم وعجزهم ويأسهم، ولانعدام المنافسة بينهم، ولضعف الهمم والدوافع التي تبعثها الملكية في النفوس. وذوى غصن الآداب، وقُضي على الفن المبدع الخلاق، فلم تكد تضيف الإسكندرية إليهما شيئاً بعد القرن الثالث؛ وفقد المصريون احترامهم لليونان؛ وفقد اليونان احترامهم لأنفسهم، إذا صح أن الإنسان قد يفقد احترامه لنفسهِ، فنسوا على مر السنين لغتهم، وأخذوا يتكلمون خليطاً فاسداً من اللغتين اليونانية والمصرية؛ وازداد عدد من يتزوجون منهم بأخواتهم زيادة مطردة، كما كان يفعل أهل البلاد، ومن يتزوجون من أسر مصرية، فامتصتهم البلاد واندمجوا في أهلها، وعبد الآلاف منه الآلهة المصرية. وما وافى القرن الثاني حتى لم يعد اليونان هم الشعب المسيطر حتى من الوجهة السياسية؛ ذلك أن البطالمة اعتنقوا دين المصريين واتبعوا طقوسهم ليحافظوا بهذا على سلطانهم، وزادوا لهذا السبب عينه من سلطة الكهنة. ولما انغمس الملوك في الترف والملاذ بدأ الكهنة يستعيدون سلطانهم ويثبتون قواعد زعامتهم، واستعادوا عاماً بعد عام الأراضي والمزايا التي سلبها منهم البطالمة الأولون . ويصف حجر رشيد الذي يرجع إلى عام 196 ق.م. الاحتفال بتتويج بطليموس الخامس وصفاً لا يكاد يختلف في شيء عن المراسم المصرية القديمة
اذن فالامم المغلوبة رغم ضعفها عندما يكون لديها الارادة والقناعة فانها لا تخضع للامم الغالبة رغم قوتها
هناك تعليق واحد:
دكتور حامد، اسمح لي أن أعلق على الأمثلة التي ذكرت، بأنها لا تنطبق البتة على قاعدة بن خَلدون، و أن أعود إلى المثال الذي استفضت في شرحه. فأنت نفسك تذكر الآتي :
"ولكن الموقف كان قد تحرج إلى أقصى حدود التحرج، لأن موارد البلاد نضبت عن آخرها، حتى لقد أحس المستغلون أنفسهم أنه لم يبقَ فيها شيء يستغلونه.
وبدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم، وأفقدهم آخر الأمر القدرة على التفكير."
و هذا كما لا بدّ انك قد فهمت، لا ينطبق على "غالب" أبدا. كما أن البطالمة بانقطاعهم عن أمة الإغريق، لم يعد ينطبق عليهم لقب "أمة" و انما باتوا جزءا من الأمة المصرية.
إن تطبيق القاعدة يجب أن يستجيب لكل شروط القاعدة، فتوجد أمتان، و توجد أمة غالبة و أخرى مغلوبة، فالغلب قد لا يكون عسكريا ضرورة و لكن في أكثر الأحيان، على أن تكون هناك علاقة ما بين الأمتين.
انت تتحدث عن ما حدث حين التماس، حينما واجه الجنود البريطانيون الافراد المصريين، فاضطروا لمحادثتهم بالعربية، هذا لا يعني أيّ شيء، و لا يعني أن البريطانيين تأثروا بالحضارة المصرية، بل يعني قدرتهم على مخاطبة الاهالي الذين استعمروا أراضيهم.. أما الأهالي، فقد تحوّلوا إلى لبس البدلات الغربية، و إلى تحويل نظم تعليمهم و صحتهم و معاملاتهم المالية الخ الخ كما البريطانيين، و هنا تجد تطبيقا لقولة العلاّمة بن خَلدون..
إرسال تعليق