clavier arabe

الأحد، 31 أكتوبر 2010

بيت سليمان

وجاءت البشريات باكتشاف أرض جديدة وهرع الاوروبيون اليها كرعاة يتسابقون نحو الكلأ لاطعام أغنامهم الجائعة انه الفردوس المفقود وخرج المفكرون يضعون تصوراتهم لهذا العالم الجديد لهذا النجم الذى بزغ فى سماء التاريخ فجأة يقول د.حبيب الشارونى فى كتابه عن فرنسيس بيكون أن راهبا دومانيكيا اسمه تومازو كمبانيلا وضع كتابا بعنون مدينة الشمس يعرض فيه أراءه الاجتماعية فينظم المجتمع وفقا لأصول العلم بحيث يتولى الحكم خير الذين مهروا فى العلم النظرى والعملى معا وكان فى ركب المفركرين فرنسيس بيكون حيث وضع كتابا بعنوان أتلانتس الجديدة وضع فيه تصورا لاطار المدينة الفاضلة وأطلق عليه بيت سليمان حيث يقوم العلماء بتفسير جوانب الطبيعة المختلفة وتوجيه العلوم لصالح الجنس البشرى فهو يرى الحكومة فى تلك الدولة الجديدة تختلف عن حكومات أوروبا انها تتألف من الصفوة المختارة التى شغلت مناصبها بفضل تفوقها العلمى فى شتى فروع المعرفة فالقائمون عليها ليسوا رجال سياسة أو حرب ولكنهم مجموعات تختص كل منها بعمل معين من أعمال البحث العلمى مجموعات مختلفة تقوم كل منها بدورها من جلب للكتب واجراء للتجارب واستخلاص النتاائج واجراء تجارب جديدة أكثر نفاذا وايضاحا ومجموعة أخرى تقدم التقارير عن تلك المكتشفات كل ذلك فى اطار تنافسى بينها لتحقيق أعلى النتائج وأرقى المحصلات ولعل هذا يتجلى واضحا فى مركز صنع القرار ودوائر الفكر الامريكى ولكن الرجل أخطأ فى موض أخر فهو حين وضع أهدافا جديدة لأتلانتس الجديدة وضع أهدافا محددة فيقول

"ان أهداف هذه الحكومة هى معرفة علل الأشياء وحركاتها الغامضة وتوسيع حدود مملكة الانسان ليمتد تأثيره الى كل الاشياء الممكنة " انها أهداف رائعة ولكن الغاية تراها مبهمة غير واضحة فماذا يعنى بمملكة الانسان ...انه يرى الجنس البشرى مثل مملكة النمل والنحل لا بد له كما فى الطبيعة من اطار تنظيمى وتعاونى تراه واضحا منظما لا يتغير ولا يتبدل جيلا بعد جيل فى الممالك الأخرى انه يريد المملكة البشرية فى نفس هذا التصور انه حقا أمر رائع ولكن هنالك خلل

فالجنس البشرى هنالك اختلافات منهجية وتنظيمية وعقيدية انهم أمم مختلفة نعم انهم من أب واحد وأم واحدة ولكنها كائنات تملك حرية الاختيار وتحديد المنهج فالسبيل اذن لتصور تلك المملكة هو الانسان نفسه الجسد البشرى وهذا لا يمنع من الاستفادة من تجارب الكائنات الاخرى انها "أمم أمثالكم .....ما فرطنا فى الكتاب من شىء " ويكون الاختلاف الواقع بين افراد البشر مثل الاختلاف بين خلايا الجسم المختلفة التى يجمع بينها رابط واحد هو الدفاع عن ذلك الجسد وتكون الاقليات الموجودة فى أى أمة مثل تلك "البكتيريا الخاملة" التى تعيش فى جسد كل منا وتقوم بينها وبين خلايا الجسد علاقات تبادلية ما دامت لم تهاجم الجسد وتنضم للكائنات الطفيلية الاخرى التى تأتى لمهاجمة الجسد البشرى عنوة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم "

كما أن الرجل حين تحدث عن الغائية لهذا الكيان السياسى جاءت الغائية ناقصة أتفق مع قدر كبير من تصوراته ولكن ليس معها بأكملها فهو يقول فى كتابه الآلة الجديدة نقلا عن د.حبيب الشارون "ربما يكون من المستحسن أن نميز بين ثلاثة أنواع من الطموح الاول طموح الانسان الذى يصبو الى أن يبسط سلطانه داخل وطنه وهو طموح عامى وضيع يليه طموح من يحاول أن يوسع من قوة بلده وسيطرتها على الجنس البشرى وهو طموح أكثر احتراما ولكنه ليس أقل من السابق طمعا أما اذا سعى الانسان لأن يجدد قوة الجنس البشرى عامة ويوسع من سيطرته على الكون فان مثل هذا الطموح انما أكثر نبلا وعظمة من الآخرين ان سيطرة الانسان على الاشياء تقوم فحسب على الفنون والعلوم لأن السيطرة على الطبيعة لا تكون الا باطاعتها " نعم ان للفنون والعلوم دور فى التعامل مع الاشياء من حولنا وفك طلاسمها ولكن مكمن الخلاف فى الغائية والوسيلة فنحن المسلمين نرى أن لله ملك السموات والأرض وأننا فقط نقوم باستعمار هذا الكوكب ونرى المعايير التى تحكمنا و الوسيلة التى ننتاغم من خلالها مع الطبيعة وكائناتها باتباع النهج الذى أنزلته السماء الينا كما تتبعه ممالك الكائنات الآخرى "فاما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى " وبذلك يتحقق التناغم مع الطبيعة

وعلى ذلك فالاطار السياسى للمملكة البشرية يكون بنفس اطار الجسد البشرى والاطار التشريعى المنظم لها هو اطار يتناغم مع ما فرضه خالق الطبيعة الانسانية علينا

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

استراتيجية الاصلاح والتغيير

ما سنسطره الآن بمشيئة الله تعالى هى فلسفة الاصلاح والتغيير عبر حركة التاريخ انها السنة الربانية التى تدور بها طاحونة الحياة وتحرك جموع البشر دون دراية منهم أو بدراية القليل ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا
ان الاصلاح عبر التاريخ يتم بطريقتين "اصلاح من الداخل " واصلاح من الخارج " الاصلاح من الداخل يكون عن طريق ما يعرف " بحرب الافكار "والاصلاح من الخارج يكون عن طريق "القوة " فالاصلاح يكون على يد أحد الاشخاص أو مجموعة من البشر يرفضون الاوضاع المزرية التى يتناقلها المجتمع ويسلكها التجمع البشرى المحيط بهم و ينتمون راغمين اليه فيتسامون عنها ويتسامون عنه يطرحون حلوال ويسوقون بدائل
يأتى الاصلاح على يد نبى أو عالم صادق أو مفكر لا يبغى من الاجر شيئا يصوغ الادلة والقرائن يعرض ما انزلقت اليه أقدام البشرية من أحوال ممقوتة ويصححها وتنشأ هنالك حالة جدلية بينه وبين نخب الفكر فى قومه
انظر مثلا لحوارات شعيب والذين يناوئونه انظر الى نوح حين خاطبه قومه بتعنت واضح " يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا " انها حالة جدلية متجددة ونقاش لا يعرف التوقف انها حرب الافكار ان استجاب القوم كان الخير كله وان ابوا تأتى القوة الالهية لتقوم هى بدورها فكان هود وصالح شعيب ولوط ونوح كانت القوة الآتية من الخارج ريحا صرصرا رجفة , حجارة , طوفانا يطيح بكل شىء , لقد رفض التجمع البشرى القائم وقتها أفكار الاصلاح وأدار ظهره اليها
ولكن من مبعث موسى عليه السلام حدث التطور الاكبر والمنعطف الاخطر فى تاريخ البشر حيث انتقلت القوة الى يد المؤمنين بمباركة الهية فتحولت عصا موسى وهى عصا عادية الى أداة تحمى , تضرب , تدافع وتهاجم وتفجر ينابيع الخير وعيون الماء ثم كانت حروب يوشع بن نون وداود وجيوش سليمان وحروب محمد رسول الله
وحروب الافكار ليست اعتباطية بل تقوم على مناقشة الافكار بموضوعية شديدة ومصداقية تامة دون سب أو قذف دون تعنت أو عناد وترتبط برغبة صادقة وحيوية لا تعرف الفتور ولنضرب المثل بفولتير ورفاقه حين ضاقوا بما كانت عليه الاوضاع فى أوروبا فأرسل الى دالامبير يخاطبه "أنت مفكر كبير عامل مجد عظيم لكن لا يكفى الانسان أن يبدو أعظم فكرا من غيره هيا اذن وقدم خدمة للجنس البشرى ألا يجب على الانسان اذا كان انسانا أن يحمر وجهه خجلا ان هولم يقرع ناقوس الثورة على أعداء الانسانية " فيرد عليه دالامبير بما يدور فى صدر الكثير ويداعب الخلد بسخرية " كان بودى أن أخدم العقل ولكنى أكثر رغبة فى أن أعيش ناعم البال ان البشر لا يساوون الجهد الذى نعانيه لتنويرهم "

لذلك كان الانبياء أعظم أجرا انهم لا يبغون من الاصلاح أجرا الا لرضا الالهى والارتقاء بمسالك المجتمع الذى خرجوا اليه وعلى الدرب سار المؤمنون الصادقون انه النضال فى سبيل الاله لا يبغون من البشرية جزاء ولا ولا شكورا ولكن فولتير يخاطبه ويشد من آزره " هيا يا ديدرو الشجاع ويا ودالامبير المقدام هيا يا عزيزى اسسوا معا هيئة من الفرسان البواسل حماة الحقيقة اقضوا على الخطب الرنانة التافهة وعلى السفسطات البائسة وعلى الاباطيل التاريخية والمتناقضات اللامعقولات التى لا تحصى عليكم يا خوانى الفلاسفة أن تسيروا متراصين كالمحفل المكدونى انه لم يقهر الا انه خاض القتال مشتتا ان المبشرين يجوبون الارض والبحار فليطف الفلاسفة فقط بالشوارع وليبذروا البذرة الصالحة

وعندما تتأمل رحلة الصعود الاسلامى تجد الامر نفسه كذلك فمحمد رسول الله خاض فى مكة حرب أفكار ضد قومه وظروفهم ومعبوداتهم ثلاثة عشر عاما فى مكة وكانت قوة الكلمة العاتية التى زلزلت أركان المجتمع المكى بأكمله

ثم كان التحول بعد ذلك الى القوة بعد الانتقال الى أرض أخرى تكون ملاذا آمنا ينطلق منها الى ساحات القتال وليس كما يزعم البعض ويتناقلونه عما يعرف بالتربية لأنه لم يستغرق المدة نفسها فى المدينة كسبيل للتعامل مع الانصار بل اكتفى وقتها بصحة العقيدة للانطلاق فالاذن بالقتال كان بمجرد أن وطئت الاقدام المدينة وفى الحديث وهو فى صحيح مسلم أنه جاءه صلى الله عليه وسلم رجل فى غزوة بدر وكنا كما تروى السيدة عائشة نجد فيه نخوة للقتال فأبى مرتين الا بالشهادتين وعندما وافق الرجل فى الثالثة انضم الى الفيلق ولم يطلب منه الانتظار ثلاثة عشر عاما كحال المهاجرين فى مكة فالامر كان مرتبطا بناحية استراتيجية عسكرية وبقعة جغرافية آمنة ينطلق منها ولكن الامر لا يعنى أنك لا تقوم بالدفاع عن نفسك والتصدى لجحافل الظلم بأى طريقة كانت فعمر بن الخطاب فى مكة كان يتوعد من يقترب منه انه حق الدفاع عن النفس الذى كفله الاسلام وحمزة شج رأس أبى جهل حين تعدى على بن أخيه

اذن فهذه هى استراتيجية الاصلاح عبر التاريخ ويكون من خلال هذين الطريقين وعلى كل أمة على كل مجتمع يحدد أى الطريقين يختار

الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

رحلة عبر قاطرة التاريخ

أكره الحداثة بشدة انها عبث فكرى تحدث قطيعة مع الماضى وهذه سذاجة عقلية انها تعيد البشرية الى مرحلة الطفولة الاولى لذلك تخيلت وكأنى أركب قاطرة التاريخ أتجول فى دروب الماضى وكأنى بنبى الله زكريا وقد وقد تكفل مريم وكأن الرب يريد أن يكافئه يريد أن يهب له ولدا ولكن يريده أن يتوجه اليه بالدعاء يرى عند مريم الاطعمة المختلفة فى غير أوقاتها يناله التعجب يا مريم أنى لك هذا هو من عند الله فيتوجه هنالك الى ربه كان وجود تلك المنوجات فى غير وقتها مدعاة للتساؤل ودافعا الى الدعاء تراه فى سورة مريم وصف لحالته وهو يهمس بصوت خفى فيكون الاستجابة الفورية هل جزاء الاحسان الا الاحسان
وأمضى بقاطرتى الى امرأة أخرى كاترين الكبرى التى تولت الحكم فى روسيا وأذلت الخلافة العثمانية وكانت ذات علالقات متعددة شهوانية للغاية ولكنها كانت على قدر كبير من الوعى فلم تسمح لعاشق منهم أن يتدخل فى قراراتها السياسية فمهما انزلقت قدمك الى عالم الخطيئة لا تجعله مبررا للتخلى عن الثوابت مهما كان
وأمضى بالقطرة الى عام سبعة هجرية ورجل يدعى الحجاج بن علاط أسلم سرا ابان خيبر فانطلق الى مكة وأخبرهم بأن محمدا قد هزم وأنه وقع أسيرا وأن أهل خيبر سيبعثونه اليكم حتى تقتلوه بأيديكم و فتهلل القوم وقام يجمع كل ماله الذى له عندهم حتى ينال من فيء محمد فجاءه العباس وقد أصابه الغم يتحقق مما قاله الرجل فنظر اليه ويبدو أن قلبه رقاليه فطلب أن يقابله بعد الانتهاء من جمع ماله وبعدم قام الرجل بما قام أخبره بأن محمدا قد فتحها وترك بن أخيه عروسا على بن مليكهم

وأمضى بقاطرتى لأرى بن عباس وهو يشرح تفسير سورة النمل ويتحدث عن الهدهد وقدرته على رؤية الماء فى باطن الارض فيقوم رجل ويسأله كيف ذلك يا بن عباس والطفل ينصب له الفخ فيقع فيه فيقول لولا يقول هذا رددت على بن عياس ما أجبته " يا هذا اذا وقع القدر عمى البصر" فى كل عصر تجد مناطحون بالباطل دوما

وامضى بقاطرتى لأرى فولتير وقد حببت الى نفسه العزلة فكتب رسالته الى مدام ماركيز فيقول لها " ان العزلة تزيد العواطف حيوية كما أن الحياة فى باريس تبعثر جميع الافكار فينسى المرء كل شىء انه يلهو برهة بكل شىء فى هذا الفانوس السحرى حيث تمر جميع الصور سريعة كانها الظلال اما فى العزلة فان الانسان ينهمك فى عواطفه "كم هى مثمرة العزلة كثيرا



عزيزى القارىء أستأذنك فى اجازة لمدة شهر للاستجمام قليلا وسأعود بعدها بمشيئة الله تعالى





الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

خريف الحضارات والدول

 
"







ينتابني في فصل الخريف دومًا حالة من الاكتئاب خاصة مع العودة إلى التوقيت الشتوي؛ حيث يقصر ضوء النهار بعد طول ويتزايد ظلام الليل بعد نقصان وتلف أستار الهدوء جنبات الكون، وربما أيضًا لأنه كان موسم العودة إلى مقاعد الدراسة, وتبدأ النسمات الباردة في الهبوب منذرةً بقدوم ما هو أسوأ ويفشل قرص الشمس بعد فوران الصيف وقيظه في إرسال بعض الدفء إلينا، ويصبح كأنه وحشٌ فَقَدَ أنيابه فلم يعد يخيف أحدًا قبل أن يتوارى خاشعًا خلف السحب المطيرة ما أشبه حياة البشر وتاريخ الحضارات والأمم بالمناخ ومواسمه.إن الطبيعة البشرية أبدًا لا تتبدل وحياة الدول والحضارات واحدة لا تتغير؛

لذلك كان للتاريخ فلسفة ثابتة ومعيار محدد تتحرك حوله الأحداث صعودًا وهبوطًا ثم في النهاية تصل إلى نفس النتيجة الحتمية، إنها سنة الله فيمن خلق ولن تجد لسنة الله تبديلاً.يحدثنا ميكافيللي عن نشأة الحضارات والدول واضمحلالها فيقول: "إنها من أكثر الظواهر المتتابعة المنتظمة دلالة في التاريخ، ويضع لتلك المشكلة المعقدة قانونًا في غاية البساطة فيقول إن الشجاعة تنتج السلم، والسلم ينتج الراحة والراحة تستتبع الفوضى والفوضى تؤدي إلى الخراب، ومن الفوضى ينشأ النظام والنظام يؤدي إلى الشجاعة".. (ول ديورانت- المجلد الحادي عشر)،
وما وصل إليه ميكافيللي من قانون ومعيار صحيح، ويمكننا أن نقيس به الحضارات، رقيها وتدنيها، علوها وسفولها؛ لذلك أنا لا أخشى الفوضى الخلاقة أو يعتريني اليأس من الخراب والانهيار لأني أعلم أنه في نهاية النفق دومًا بعض من النور، وفي ظلام التخبط بصيص من الأمل وأحلك لحظات الليل يليها شعاع الفجر وأذان السماء، كم لصلاة الفجر من معانٍ تفوق ما كنا نتخيله، كما أن ميكافيللي لم يحدد لها إطارًا زمنيًّا، وقد أخطأ ابن خلدون- في رأيي- حين وضع إطارًا زمنيًّا للدول بثلاثة أجيال أو مائة وعشرين عامًا على أساس أن الجيل أربعون سنة؛ حيث تقوم الدولة على جيلٍ من الشجعان ثم يعقبه جيل يتمرغ في الرفاهية يستتبعه جيل ضعيف نشأ تحت مظلة تلك الحياة، وعلى يديه تنهار الدولة.فتحليل ابن خلدون ليس صحيحًا؛ لأنه وضع إطارًا زمنيًّا، كما أنه لم يحدد على أي أساسٍ قامت تلك الدولة، على أساس أيديولوجي أم مرتبط بقدرة الأشخاص،
فالدولة الأموية والعباسية والعثمانية والتي قامت كل منها على قدرات أشخاص كانت أعمارها مختلفة، فقد عاشت الدولة العثمانية على سبيل المثال خمسة قرون، وكلها مع ذلك تتبع أيديولوجية واحدة تصل بعمرها إلى أكثر من ألف ومائتي عام، في حين أن الاتحاد السوفيتي قام على أيديولوجية معينة ولم تعش دولته أكثر من خمسة وسبعين عامًا، كما أن الحقبة النازية قامت على قدرات شخصية لهتلر في ألمانيا كانت أقل من ذلك بكثيرٍ، في حين أن الأسرة العلوية التي قامت على قدرات محمد علي في مصر وأيديولوجية فرنسية استمرت مائة وسبع وأربعين سنةً وانتهت أسرة محمد علي واستمرت الأيديولوجية، ولكنها الآن في طور الاحتضار؛ لذلك فأنا أُفضِّل عدم وضع إطار زمني بل مراحل تمر بها الدول والحضارات جميعًا وهي البداية، الفوران، نقطة الانقلاب، الانكسار, النهاية ويكون الاختلاف بين كل دولة أو حضارة عن الأخرى هو في عدد السنين التي تأخذها كل مرحلة من المراحل السابقة، إنها نفس المراحل التي يمر بها قرص الشمس في وقت النهار؛ حيث يشرق صباحًا على استحياء ثم يشتد عوده شيئًا فشيئًا ويتزايد معه لهيب أشعته وحرارتها ليتوسط كبد السماء ثم يبدأ في الانحدار إلى الهاوية، إلى الغروب، إن منحنى الحضارات والدول يشبه الأفق المحيط من حولنا، وتراه حين يهوى تغمره الحمرة كأنه ينتحب مودعًا عالم النهار ولا تدري هل ينتحب على نفسه أم على ابن آدم الذي لا يريد أن يفهم ولكنه ويا للعجب في الوقت الذي يغادر فيه هذا المكان تراه يولد في مكان آخر ويشرق على أمة أخرى.
وسوف نفتح كتاب الله لنرى كيف حدثنا القرآن عن الحضارات والدول وما هي الحتميات التي تنتظرها؟ ولماذا تعصف بها يد النهاية بلا رحمة؟ فنجد أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أمرًا على كل الأمم.. على كل القرى ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾ (الإسراء)، وهو قدر العلم وليس قدر الإجبار، وتأمل من حولك وارجع لكل كتب التاريخ لتجد أن حال الدول والقرى بين العذاب والهلاك، إنه أمر الله الذي لا يتغير.ولكن هذه القرى لا تهلك إلا بعد أن يرسل الله إليها نذير ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: من الآية 24)، ويأمرهم هذا النذير بعبادة الله واجتناب الطاغوت، ويأتي هذا النذير في مرحلة الرفاهية والترف التي تمر بها تلك الدولة وهذه الحضارة ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ (الإسراء: من الآية 16)، وانظر إلى كلمة مترفيها لم يقل زعماءها لم يقل رؤساءها بل مترفيها وما تحمله هذه الكلمة من معاني توحش الثروة والركون إلى الراحة والدعة والاستكبار في الأرض، فهي تعبر عن مرحلة معيشية وليس فقط وضعية طبقية؛ لأنهم من الممكن أن يكونوا زعماء وصالحين؛ لأن الصلاح يمنع الهلاك عن القرية ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود)،
فيا ترى كيف حال الله مع قريةٍ تُنكل بعلمائها.. عالم تفسير بدعوى تصنيع طائرة، وعالم حديث، ومجموعة من الإعلاميين الشرفاء، وأولياء أمور مدرسة كل ذنبهم أنهم استلهموا النموذج الإسلامي في حين تُترك الحرية كاملةً لرواد شارع الهرم ورموز الثقافة العارية ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)﴾ (القمر).إذن فالحضارات والدول حين تفسد في الأرض حين تدنسها بظلمها وشرها فعليها أن تعلم ان مؤشر النهاية قد تحرك وأن موعد الأفول قد أزف وأن المسألة مسألة وقت وأنها هي دون غيرها تتحمل وزر ما فعلت ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: من الآية 118).ومهما فعلت ومهما جيشت ومهما استعانت براند أو غيرها فلن يمنع هذا عنها أمر الله ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد: من الآية 11).فهل أدركت أمريكا أن موعد الغروب قد حان؟ هل علمت ما تخبئه لها يد القدر كما أخبرها سفر حزقيال على أيدي الذين أرسل إليهم رسول؟ أم تراها لا تزال تجادل؟ أم تراها لا تزال تعاند؟ أم تراها لا تزال تسير خلف الخرافات والأوهام والتحدي لحركة التاريخ والزمن؟ إنني سوف أشرح لأمريكا نموذجًا هي تعلمه جيدًا وسياسة هي تتبعها ولكنها تضعها على غير موضعها نموذج ذي القرنين سواء إن كان الإسكندر أو كورش أما السياسة فهي سياسة.العصا والجزرةفذي القرنين الذي حكم الأرض وضع تلك السياسة ووظفها حيث يجب أن يكون التوظيف فيقول ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ (الكهف: من الآية 87)، فسياسة العصا تكون لكل ظالم يتعدى على الأفراد ويسطو على أموالهم وحرياتهم أما الإمبراطورية المستبدة فتجعلها لمن يخرج عن طوعها لمن لم يخضع صاغرا لاطروحاتها ويقول ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾ (الكهف)، وسياسة الجزرة تكون للصالحين والمؤمنين وليس للأنظمة المستبدة التي تنكل بشعوبها وتسومهم سوء العذاب ما دامت تدور في مدارها وتلهث خلف فتاتها، فمن أراد أن يحكم الأرض فلتكن هذه سياسته، وليكن هذا هو النهج الذي يجب أن يسير عليه.