"
ينتابني في فصل الخريف دومًا حالة من الاكتئاب خاصة مع العودة إلى التوقيت الشتوي؛ حيث يقصر ضوء النهار بعد طول ويتزايد ظلام الليل بعد نقصان وتلف أستار الهدوء جنبات الكون، وربما أيضًا لأنه كان موسم العودة إلى مقاعد الدراسة, وتبدأ النسمات الباردة في الهبوب منذرةً بقدوم ما هو أسوأ ويفشل قرص الشمس بعد فوران الصيف وقيظه في إرسال بعض الدفء إلينا، ويصبح كأنه وحشٌ فَقَدَ أنيابه فلم يعد يخيف أحدًا قبل أن يتوارى خاشعًا خلف السحب المطيرة ما أشبه حياة البشر وتاريخ الحضارات والأمم بالمناخ ومواسمه.إن الطبيعة البشرية أبدًا لا تتبدل وحياة الدول والحضارات واحدة لا تتغير؛
لذلك كان للتاريخ فلسفة ثابتة ومعيار محدد تتحرك حوله الأحداث صعودًا وهبوطًا ثم في النهاية تصل إلى نفس النتيجة الحتمية، إنها سنة الله فيمن خلق ولن تجد لسنة الله تبديلاً.يحدثنا ميكافيللي عن نشأة الحضارات والدول واضمحلالها فيقول: "إنها من أكثر الظواهر المتتابعة المنتظمة دلالة في التاريخ، ويضع لتلك المشكلة المعقدة قانونًا في غاية البساطة فيقول إن الشجاعة تنتج السلم، والسلم ينتج الراحة والراحة تستتبع الفوضى والفوضى تؤدي إلى الخراب، ومن الفوضى ينشأ النظام والنظام يؤدي إلى الشجاعة".. (ول ديورانت- المجلد الحادي عشر)،
وما وصل إليه ميكافيللي من قانون ومعيار صحيح، ويمكننا أن نقيس به الحضارات، رقيها وتدنيها، علوها وسفولها؛ لذلك أنا لا أخشى الفوضى الخلاقة أو يعتريني اليأس من الخراب والانهيار لأني أعلم أنه في نهاية النفق دومًا بعض من النور، وفي ظلام التخبط بصيص من الأمل وأحلك لحظات الليل يليها شعاع الفجر وأذان السماء، كم لصلاة الفجر من معانٍ تفوق ما كنا نتخيله، كما أن ميكافيللي لم يحدد لها إطارًا زمنيًّا، وقد أخطأ ابن خلدون- في رأيي- حين وضع إطارًا زمنيًّا للدول بثلاثة أجيال أو مائة وعشرين عامًا على أساس أن الجيل أربعون سنة؛ حيث تقوم الدولة على جيلٍ من الشجعان ثم يعقبه جيل يتمرغ في الرفاهية يستتبعه جيل ضعيف نشأ تحت مظلة تلك الحياة، وعلى يديه تنهار الدولة.فتحليل ابن خلدون ليس صحيحًا؛ لأنه وضع إطارًا زمنيًّا، كما أنه لم يحدد على أي أساسٍ قامت تلك الدولة، على أساس أيديولوجي أم مرتبط بقدرة الأشخاص،
فالدولة الأموية والعباسية والعثمانية والتي قامت كل منها على قدرات أشخاص كانت أعمارها مختلفة، فقد عاشت الدولة العثمانية على سبيل المثال خمسة قرون، وكلها مع ذلك تتبع أيديولوجية واحدة تصل بعمرها إلى أكثر من ألف ومائتي عام، في حين أن الاتحاد السوفيتي قام على أيديولوجية معينة ولم تعش دولته أكثر من خمسة وسبعين عامًا، كما أن الحقبة النازية قامت على قدرات شخصية لهتلر في ألمانيا كانت أقل من ذلك بكثيرٍ، في حين أن الأسرة العلوية التي قامت على قدرات محمد علي في مصر وأيديولوجية فرنسية استمرت مائة وسبع وأربعين سنةً وانتهت أسرة محمد علي واستمرت الأيديولوجية، ولكنها الآن في طور الاحتضار؛ لذلك فأنا أُفضِّل عدم وضع إطار زمني بل مراحل تمر بها الدول والحضارات جميعًا وهي البداية، الفوران، نقطة الانقلاب، الانكسار, النهاية ويكون الاختلاف بين كل دولة أو حضارة عن الأخرى هو في عدد السنين التي تأخذها كل مرحلة من المراحل السابقة، إنها نفس المراحل التي يمر بها قرص الشمس في وقت النهار؛ حيث يشرق صباحًا على استحياء ثم يشتد عوده شيئًا فشيئًا ويتزايد معه لهيب أشعته وحرارتها ليتوسط كبد السماء ثم يبدأ في الانحدار إلى الهاوية، إلى الغروب، إن منحنى الحضارات والدول يشبه الأفق المحيط من حولنا، وتراه حين يهوى تغمره الحمرة كأنه ينتحب مودعًا عالم النهار ولا تدري هل ينتحب على نفسه أم على ابن آدم الذي لا يريد أن يفهم ولكنه ويا للعجب في الوقت الذي يغادر فيه هذا المكان تراه يولد في مكان آخر ويشرق على أمة أخرى.
وسوف نفتح كتاب الله لنرى كيف حدثنا القرآن عن الحضارات والدول وما هي الحتميات التي تنتظرها؟ ولماذا تعصف بها يد النهاية بلا رحمة؟ فنجد أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أمرًا على كل الأمم.. على كل القرى ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾ (الإسراء)، وهو قدر العلم وليس قدر الإجبار، وتأمل من حولك وارجع لكل كتب التاريخ لتجد أن حال الدول والقرى بين العذاب والهلاك، إنه أمر الله الذي لا يتغير.ولكن هذه القرى لا تهلك إلا بعد أن يرسل الله إليها نذير ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: من الآية 24)، ويأمرهم هذا النذير بعبادة الله واجتناب الطاغوت، ويأتي هذا النذير في مرحلة الرفاهية والترف التي تمر بها تلك الدولة وهذه الحضارة ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ (الإسراء: من الآية 16)، وانظر إلى كلمة مترفيها لم يقل زعماءها لم يقل رؤساءها بل مترفيها وما تحمله هذه الكلمة من معاني توحش الثروة والركون إلى الراحة والدعة والاستكبار في الأرض، فهي تعبر عن مرحلة معيشية وليس فقط وضعية طبقية؛ لأنهم من الممكن أن يكونوا زعماء وصالحين؛ لأن الصلاح يمنع الهلاك عن القرية ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود)،
فيا ترى كيف حال الله مع قريةٍ تُنكل بعلمائها.. عالم تفسير بدعوى تصنيع طائرة، وعالم حديث، ومجموعة من الإعلاميين الشرفاء، وأولياء أمور مدرسة كل ذنبهم أنهم استلهموا النموذج الإسلامي في حين تُترك الحرية كاملةً لرواد شارع الهرم ورموز الثقافة العارية ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)﴾ (القمر).إذن فالحضارات والدول حين تفسد في الأرض حين تدنسها بظلمها وشرها فعليها أن تعلم ان مؤشر النهاية قد تحرك وأن موعد الأفول قد أزف وأن المسألة مسألة وقت وأنها هي دون غيرها تتحمل وزر ما فعلت ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: من الآية 118).ومهما فعلت ومهما جيشت ومهما استعانت براند أو غيرها فلن يمنع هذا عنها أمر الله ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد: من الآية 11).فهل أدركت أمريكا أن موعد الغروب قد حان؟ هل علمت ما تخبئه لها يد القدر كما أخبرها سفر حزقيال على أيدي الذين أرسل إليهم رسول؟ أم تراها لا تزال تجادل؟ أم تراها لا تزال تعاند؟ أم تراها لا تزال تسير خلف الخرافات والأوهام والتحدي لحركة التاريخ والزمن؟ إنني سوف أشرح لأمريكا نموذجًا هي تعلمه جيدًا وسياسة هي تتبعها ولكنها تضعها على غير موضعها نموذج ذي القرنين سواء إن كان الإسكندر أو كورش أما السياسة فهي سياسة.العصا والجزرةفذي القرنين الذي حكم الأرض وضع تلك السياسة ووظفها حيث يجب أن يكون التوظيف فيقول ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ (الكهف: من الآية 87)، فسياسة العصا تكون لكل ظالم يتعدى على الأفراد ويسطو على أموالهم وحرياتهم أما الإمبراطورية المستبدة فتجعلها لمن يخرج عن طوعها لمن لم يخضع صاغرا لاطروحاتها ويقول ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾ (الكهف)، وسياسة الجزرة تكون للصالحين والمؤمنين وليس للأنظمة المستبدة التي تنكل بشعوبها وتسومهم سوء العذاب ما دامت تدور في مدارها وتلهث خلف فتاتها، فمن أراد أن يحكم الأرض فلتكن هذه سياسته، وليكن هذا هو النهج الذي يجب أن يسير عليه.