تزامنت قضية جلد الطبيبَين المصريَّين في المملكة العربية السعودية، والتي اشتعلت مؤخرًا في الساحة الإعلامية، وتطايرت شظاياها لتحرق علاقة الود والترابط بين الشعبين، واستغلها سفهاء القوم وأذيالهم- وما أكثرهم في عصرنا!!- في التعدي على أحكام الشريعة والنيل منها.
تزامنت تلك القضية مع قضية طالبَين مصريَّين في الولايات المتحدة الأمريكية؛ يرضخان تحت مخالب القضاء الأمريكي؛ بتهمة مساعدة إرهابيين، وقام القضاء الأمريكي الأشمّ بعمل تسوية مخزية معهما، وهي أن تسقط تهم أخرى عنهما مقابل الاعتراف بهذه التهمة المطاطة الفضفاضة التي تسع قارةً بأكملها.
الأمر مضحك للغاية، ولكن شر البلية ما يضحك ويضحك ويضحك حتى تنهمر دموع الحسرة على الواقع الإنساني تحت تيار العلمانية الظلامي.. إنه قضاء المقايضة الفاشي، رغم أن هذه التهمة وجَّهتها سارة بالين للرئيس المنتخب باراك أوباما، ومع ذلك سلموه مقاليد الحكم عندهم أما هذان الطالبان المسكينان فيواجهان شبح السجن 15 عامًا، فلماذا كل هذا الظلم الفاضح.
لقد أجبرهم القضاء الأمريكي على الاعتراف بتهمة ليس عليها أدلة واضحة أو براهين ذات قيمة ولم يرأف القضاة الأمريكيون بحاليهما أو حال ذويهما.. لم يرأف قلبه لدموع وتوسلات والديهما، وتعامل معهما بقسوة غير مسبوقة، وما أكثر هذه النوعية من القضايا في الغرب ضد أبناء جلدتنا.
ومع ذلك لم نسمع أصواتًا كتلك التي تنعق في قضية الطبيبَيْن، لم نرَ هجومًا على منظومة القضاء الغربي الفاشلة التي تصدر من الأحكام القضائية الأعاجيب والأعاجيب، فضلاً عن سقوطها الذريع أمام الرغبات الإنسانية الملتهبة، فلم تنجح في صيانة المجتمع الغربي أو حماية النسيج الاجتماعي إنها لا تحقق أمنًا ولا تردع نفوسًا متفلِّتةً، وللأسف نقلوا هذه البضاعة الفاسدة إلينا، ويطبِّل لها المرجفون في المدينة، وأصبحنا نسمع من الحوادث ما يجعلك تكفر بقيمة الانسانية كلها، فلم تعُد الإنسانية في عصر العلمانية ذات قيمة.. لم يجرؤ أحد من أولئك المتطاولين على أحكام الشريعة أن ينال من القضاء الأمريكي، وكيف له أن يجرؤ وهو يتمرمغ في حسنات المعونات الأمريكية المشبوهة ويجلس على الموائد مدفوعة الأجر.
إني لا أمانع في انتقاد النظام السعودي ومواقفه، ولكن أن يُستغلَّ الأمر ويجعله البعض فرصةً سانحةً للغمز واللمز بأحكام الإسلام وقوانينه فهذا ما لا نقبله، خاصةً أن الغموض لا يزال يحيط بالقضية، وهناك تفاصيل كثيرة مسكوت عنها، ولا أدري لماذا هذا المحامي بالذات يتصدَّر مشهد الدفاع عن الطبيبين أم أنه بعد انكشاف خبايا قضية نهى رشدي وجب الحذر في اختيار المحامين.
كما أنني لم أعد أفهم القضاء الغربي برمَّته؛ فالمغني اللبناني جورج وسوف والمعروف أيضًا بأبي وديع؛ يتم ضبطه ومعه المخدِّرات في سيارته، ومع ذلك يتم إطلاق سراحه، وكأن شيئًا لم يكن.. إنه مطرب، والطرب صنيعة غربية.
أما الطالبان المصريان لوجود بعض البنزين وأنابيب معدنية في سيارتهما فيُحرمان من الحرية خمسة عشر عامًا، رغم أن القانون الأمريكي أصلاً يُجيز حمل الأسلحة.. فيا أدعياء العدالة أين العدالة؟!
إن القضاء السويسري تظاهر بالحرص على العدالة في قضية تمس أحد أبناء الحكام العرب، وحين تم تهديد سويسرا بمنع النفط اختفت تلك المظاهر الخادعة وانحنى القضاء السويسري أمام شلالات النفط المتدفقة، وما قضية اليمامة منا ببعيد.. إن القضاء الغربي تحكمه المصالح؛ فالمصلحة فوق العدل، والقانون سيف فقط فوق رقاب الضعفاء.
والعجيب أن أحدهم يحاول أن ينتقص من قيمة الحدود في الشريعة، ويرى أننا نحصر الشريعة من خلال تلك الحدود في منظور ضيِّق، وهو بالطبع لا يعلم أن الشفاعة في حدٍّ وليس مجرد تعطيله أو التنكُّر له- هو وسائر الحدود الأخرى- كان سببًا في هلاك القوم من قبلنا.. "أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
لقد وضع الإسلام منظومةً عقابيةً تحقق العدل إن أساء البعض استخدامها ووضعها في غير موضعها، يتحمَّل هو وحده الإثم والوزر، يتحمَّل وحده جريرة ما فعل، أما أولئك البعض الذين يتظاهرون بالرحمة والحرص على الكرامة الإنسانية فيكفيهم نظرة واحدة في صفحة الحوادث والقضايا؛ ليدركوا أن هناك آلاف البشر يستحقون الجلد، وأين تلك الكرامة الإنسانية حين ارتكبوا تلك الموبقات؟!
لقد وضع الإسلام أسسًا لمنع الاستبداد من قبل الحكام وتكبيل أياديهم عن التعدي على الرعية، ولكنهم في النهاية بشر؛ يصيبون ويخطئون، يجورون ويتجاوزون، يتذكرون ويتراجعون.
فقد جعل الإسلام المنظومة التشريعية مستقلةً عن الحاكم، فلا يمكن أن يجعلها مطيةً لأهوائه ورغباته، فيُصدر من الفرمانات أو الأحكام ما يشاء؛ فالبشر ليسوا عبيدًا وإنما أحرار.
والتاريخ الإسلامي مليء بقضاةٍ يتضاءل كلُّ قضاة الغرب أمام نعل أحدهم، ولكنه الهوى الذي يمنع من رؤية الحقيقة أمام بريق الدولار حين يتلألأ أمام النفوس الضعيفة والأفئدة الخاوية؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن القلب ليتمزق حزنًا وأسى على الطالبَين المصريَّين اللذَين افترسهما القضاء الأمريكي بلا رحمة، ولكنهما مخطئان، فلو أنهما وضَعا في حقيبة السيارة شرائط أبو وديع وسيجارتي بانجو لتم إخلاء سبيلهما فورًا واعتذر لهما القضاء الأمريكي الشامخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق